رواية حين يزهر القلب الحلقه الثالثه بقلم الكاتبه نسرين بلعجيل حصريه وجديده على مدونة قصر الثقافه
![]() |
رواية حين يزهر القلب الحلقه الثالثه بقلم الكاتبه نسرين بلعجيل حصريه وجديده على مدونة قصر الثقافه
الحلقة الثالثة: الغياب
خطوات ليلى كانت واثقة وهي خارجة من باب الأوتيل، حقيبتها في إيدها، وفستانها الأنيق بيتهز مع نسمة هواء باريسية منعشة. قلبها كان بيقول لها إنها داخلة يوم مهم، يوم يثبت إنها قد المسؤولية.
ركبت التاكسي واتجهت لدار الأزياء. طوال الطريق، عينيها بتجري على شوارع باريس، المحلات الفخمة، الوجوه الأنيقة، والبنايات العتيقة. باريس مش مجرد مدينة… باريس كأنها مسرح كبير، وكل واحد ليه دور بيلعبه.
وصلت لمقر الدار، مبنى أنيق بواجهات زجاجية تعكس نور الشمس. في الداخل، تصاميم بتلمع بألوان مختلفة، ووجوه مصممين، عارضات أزياء، ومساعدين بيتحركوا في كل اتجاه. ليلى أخذت نفس عميق، ومدت يدها بالملفات اللي جابتها.
أنا هنا عشان أثبت نفسي… عشان أثبت إن المدير ما غلطش لما اعتمد عليّ.
دخلت قاعة اجتماعات واسعة، فيها جدران مزينة بصور حملات أزياء عالمية. بدأت تعرض الموديلات اللي جابتها، صوتها هادي لكن ثابت. نظرات بعض المصممين كانت متفحصة، كأنهم بيختبروا مش بس التصاميم، لكن حضورها هي كمان.
وفي لحظة شرود، وهي بتقلب أوراقها، خطر على بالها كريم. ابتسمت بخفة، ثم أدركت بسرعة: لا، ركزي… ده يومك.
جلست ليلى في ركن هادئ جنب دار الأزياء، مكان صغير للمأكولات السريعة لكنه أنيق، طاولة مطلة على ناصية شارع باريسي مع بيوت منحدرة ونوافذ مزروعة بأزهار. اختارت سلطة دافئة مع قطعة سمك مشوي وكوب شاي أخضر — وجبة بسيطة لكنها مرتبة، عشان تستعيد تركيزها قبل ما ترجع للعمل.
كانت تحاول تقطيع طعامها ببطء، لكن الهاتف رن. اسم والدتها ظهر على الشاشة. نفس الصوت اللي كان يقسم حياتها بين واجبات وقلق وحنان. ردّت بحب:
– "ألو يا ماما… كل سنة وإنتِ طيبة."
صوت الأم فيه تعب واضح:
– "يا حبيبتي… الولد عمر مش بيسمع مني خالص، دايمًا مقفول ومش بيرد على التليفون، ومريم قاعدة مع أصحابها طول اليوم وما بتدخلش البيت إلا متأخرة."
ليلى حسّت برعشة في صدرها — عادة كانت تسمع الشكاوى بصبر وتلقى حل، لكن اليوم كان عندها طاقة أقل للجلوس في موقع الأمّ الدائمة.
حاولت تهدّي الموقف:
– "ما تقلقيش يا ماما… أنا هكلمهم ساعة ما أرجع. إنتِ ارتاحي شوية."
الأم ردّت بحنان وخوف:
– "مش عارفة يا ليلى… أنا لوحدي هنا ساعات بحس إني تايهة."
ليلى سكتت دقيقة، شافت في المرايا الصغيرة صورة الأم في شاشة الهاتف تربطها بماضيها كله: سنوات تربية، تنازلات، أمان مُعطى بدون حساب. فجأة حسّت بثقل كل السنين دي، وبعدها صوت داخلي قال لها حاجة مختلفة:
فتنفّست بعمق، وردّت بحزم رقيق:
– "يا ماما… أنا طول عمري عايشة لولادي. دلوقتي أنا في باريس شغل ومهمتي مهمة. بوعدك أكلمهم بعد الشغل. بس الأسبوع ده… أنا هعيش ليّ شوية. فهمتي؟"
سمعت نفسها تقولها بصوت أوضح من المعتاد. الأم من الجهة التانية سكتت، ثم قالت بصوت مملوء بالحب والارتباك:
– "ماشي يا قلبي… ربنا معاكى. وماتنسيش تاكلي."
قفلت الخط، وحسّت بمزيج من الذنب والارتياح. وقفت ليلى تنظر للشارع، ولشجرة صغيرة قدامها، وفهمت إن القرار اللي نطقته مش ترف — هو فعل بسيط لاسترجاع جزء منها. همست لنفسها بصوت خافت:
"أنا طول عمري عايشة لولادي… الأسبوع ده هعيش ليّا وبس."
الجملة دي ما كانتش رفض للمسؤولية، لكنها تعهّد صغير للنفس: أسبوع من الاهتمام بالذات؛ مش تهرّب، لكن تعمير قدرات. قررت ترجع للعمل بطاقة مختلفة: تُكمِل عرضها بدقة، تسمح لنفسها بابتسامة، وتقبل أن تطلب لحظة لنفسها من وقت لوالدتها وأولادها.
رجعت إلى دار الأزياء، دخلت القاعة بتأنٍّ، قدّمت ما عليها بكل احتراف، الناس لاحظوا الحضور والهدوء اللي معاها. في داخلها، كانت الصورة أوضح: أم، موظفة، امرأة تستحوذ على قدر من حقها في الحياة.
وبينما الغروب بدأ يرسم خيوطه على زجاجات العرض، وعروض اليوم انتهت، خرجت من المبنى، قلبها فيه شعور غريب — مزيج من الإنجاز والتمكين. شغّلت هاتفها تاني تتأكد إن أمها بخير، ثم رفعت رأسها لتجد أمامها مساء باريس، الجسور، الأنوار… وكانت تعرف إن اللحظة اللي بعدها ممكن تغيّر كل شيء.
…
أما كريم، فكان يجلس في مكتبه الزجاجي المطل على نهر السين. أوراق متناثرة على الطاولة، وموظفون يدخلون ويخرجون حاملين ملفات، لكنه كان غايب عن كل ده. كل مرة يمد إيده للفنجان، ضحكة ليلى في الكافيه ترجع ترنّ في ودنه.
ليه ضحكتها ما بتفارقنيش؟ ليه حسّيت إنها مألوفة قوي؟
مد إيده للورق، لكنه من غير قصد لقى نفسه بيكتب اسمها في نوت صغيرة: ليلى. ابتسم بسخرية وقال بهمس:
– "أنا اتجننت ولا إيه؟"
قطع شروده إشعار بمكالمة فائتة. التفت للهاتف، وشاف اسم طليقته. زفر تنهيدة عميقة، وضغط على زر الاتصال.
.
– "ألو يا ندى، إزيك؟ والأولاد عاملين إيه؟"
ردّت ببرود فيه شيء من التعب:
– "الأولاد بخير… بس المصاريف بقت صعبة يا كريم. عمر داخل الجامعة، ونورا محتاجة دروس خصوصية، وأنا شايلة كل ده لوحدي."
شدّ على أسنانه، لكنه قال بهدوء:
– "أنا مش سايبك لوحدك يا ندى. من أول يوم اتفقنا إن المسؤولية مشتركة. صحيح إحنا اتطلقنا، بس أنا ما طلقتش أولادي. أنا معاكي خطوة بخطوة."
– "بس الحقيقة إني اللي قاعدة معاهم طول الوقت، أنا اللي بتابع، أنا اللي بسمع شكواهم… وإنت مش موجود غير بالفلوس."
كان صوتها مليان عتاب.
كريم أطرق للحظة، ثم ردّ بنبرة صادقة:
– "الفلوس مش كفاية، وأنا عارف. عشان كده بحاول أكون حاضر معاهم بأي شكل أقدر. يمكن ما بقدرش أبقى معاهم جسديًا كل يوم، لكن عمري ما تخلّيت عنهم. اسأليهم بنفسك… عمري ما قلت إني مشغول لدرجة أنسى أولادي."
سكت لحظة، ثم أضاف بجدية:
– "ندى، أنا مقدّر كل اللي بتعمليه، ومش ناكر تعبك. بس من فضلك، ما تحاوليش تحسسيني إني غريب عنهم. أنا أبوهم، وهفضل أبوهم، مهما كانت بيننا خلافات."
ندى من الناحية التانية سكتت، كأنها حسّت بثقل كلماته. وبصوت أخف قالت:
– "يمكن عندك حق… بس أنا تعبت يا كريم."
– "وأنا كمان، ندى. بس هنكمّل. مش عشان نفسنا… عشانهم."
أنهى المكالمة، وأسند ظهره على الكرسي. نظر إلى صور أولاده المحفوظة في إطار على مكتبه. ابتسم بحنان، وقال لنفسه:
– "أنا مش هكون زي أي أب يسيب أولاده بعد الطلاق. أنا هافضل معاهم… مهما حصل."
"كريم بعد المكالمة حس إنه مثقل بالمسؤوليات، لكن صورة ليلى وهي بتضحك في الكافيه رجعت تنور في ذهنه… زي نسمة هواء وسط زحمة الحياة."
…
مع حلول المساء، ليلى خرجت من دار الأزياء، مرهقة لكنها راضية. وقفت عند باب المبنى تدور على تاكسي. رفعت يدها، وفجأة قلبها اتخطف… كأن في طاقة مألوفة حواليها. التفتت ببطء…
وعلى بُعد خطوات، كان كريم واقف، معطفه داير حوالين كتفه، وعيونه وقعت عليها من وسط الزحام.
الزمن اتوقف. الناس بتعدي، العربيات بتهون، لكن المسافة بينهم بقت كأنها جسر نور.
ليلى حسّت قلبها يدق أسرع… مش خوف، لكن دهشة.
وكريم، بابتسامته الهادية، حس إنه أخيرًا لقى "المشهد" اللي كان مستنيه طول النهار.
اقترب خطوة… وهي ابتسمت بخجل، وكأن القدر بيقول لهم:
حتى لو حاولتوا تهربوا… القلوب اللي متشابهة هتلاقي بعض.
وهنا… أسدل الليل ستاره على باريس، والأنوار انعكست على عيونهم. لحظة قصيرة، لكنها كانت كافية تسيب أثر عميق في الروحين.
كان كل واحد فيهم داخل يومه وهو بيحاول يعيش لنفسه:
ليلى قالت إنها لأول مرة هتدي عمرها حقه، وكريم أكد لنفسه إنه أب مش هيتخلى عن أولاده.
لكن في اللحظة دي، تحت أنوار المدينة، الاتنين اكتشفوا إن الحياة مش دايمًا بتديك فرصتين… أحيانًا بتديك صدفة واحدة تكشفلك معنى جديد.
يمكن الغياب علمهم قيمة الوجود.
ويمكن القدر، وهو بيجمعهم وسط زحام باريس، كان بيهمس بهدوء:
"حتى بعد التعب، بعد التجارب، بعد العمر الطويل… لسه في وقت للقلب إنه يزهر من جديد."
يتبع
لاتلهكم القراءه عن الصلاه وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
❤️🌺🌹💙❤️🌺🌹💙❤️🌺🌹💙❤️🌺🌹💙❤️🌺🌹💙❤️
